21 عاماً.. والتحرير لا يزال مُزهراً
ذاكرة التاريخ الجميل تختال متباهيةً في الجنوب اللبناني، في هوائه ومياهه وأزقة قراه، عيد المقاومة والتحرير هو اللحظة التاريخية التي أسّست لفرح جميل كاد أن يُنسى في نفوس العرب عموماً واللّبنانيين خصوصاً لانغماسهم في معارك جانبية مع أعداء مستنسخين ومع الفساد والوباء وتداعياتهم.
مجرد استعادة لحظات النصر المعظم في شهر أيّار من العام 2000، أيامه الأخيرة بدقائق وقائع تلطيخ أسطورة جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يُقهر، تتفتح حواس القلب والفكر على فرح جماعي بتملك قوة قادرة على المقاومة والانتصار وتحطيم شرعة الهزيمة والانكسار.
في 24 أيار عام 2000 كان اندحار آخر جندي إسرائيلي من لبنان (ما عدا تلال كفرشوبا ومزارع شبعا والجزء اللبناني من قرية الغجر)، حيث أُعلن 25 أيار عيداً وطنياً للمقاومة والتحرير.
ليس سهلاً استعادة تلك الأيام المجيدة في رحاب هذه الحقبة المُضيئة قيل ويُقال الكثير في المستقبل القريب والبعيد. يكفي استعادة حال الجنوبيين قبل أيار عام 2000 وبعده، لتلمس “عظمة” المرحلة التي غيّرت مستقبل أمة.
بعد 21 عامًا، يأتي العيد في لحظة بهيجة سطّر فيها الشعب الفلسطيني، المقاوم التاريخي للاحتلال، أيامًا من الصمود والمقاومة أمام آلة الاحتلال الهمجية، واستنهض معه الأحرار الداعمين للعدالة والتحرر والمقاومة.
بهذا المعنى تكتسب المناسبة أهمية مضاعفة على المستوى السياسي والاستراتيجي، ورمزيتها المحفورة في وجدان الشعوب. تعزيز هذه اللّحظة الفارقة في تاريخ تحرّر الشعوب، أنّها نجت وتنجو من محاولات جادّة لتقويضها ولإفساد فكرة استعادة الحقوق والكرامة الوطنية.
الانتصارات اللّبنانية التي سببت تشوهاً في صورة الذات الاسرائيلية، بلور هوية وعي جماعية حاول طمسها كثر انسجاماً مع اتجاهات الخضوع للمحتل والمستعمر، لكنها لم تنجح. ومهدّت ولا تزال لقلب موازين القوى في هذا الصراع الوجودي، المصيري الذي تخوضه شعوب المنطقة العربية منذ سبعة عقود ونيّف، من أجل إخضاع غول الاستعمار، وتحرير الأرض.
لا أحد ينسى الأيادي التي انتزعت القيود من معتقل “الخيام”، ولا احتشاد الأهالي في الساحات، ورقصهم فرحاً بهذا النصر العظيم مع الانسحاب المذل لجنود وآليات المحتل. صور التحرير، التي يُراد التعتيم عليها، لا تزال تُحدث ذلك الرقص في القلوب والفخر يتجول مختالاً في الأفئدة.
لم يكن إنجاز التحرير سهلاً، بذلت على طريقه أرواح عليّة ووجوهُ، وكلمات، وقبضات، زخات رصاص، وصواريخٍ.. وأكثر. البطولات التي رويت وتروى تحكي سيرة شعب شديد البأس وقلوب حميّة لا تخاف أن تُعير رؤوسها للريح والنيران لمبارزة عدو متوحش.
الملاحم التي سطّرها الشعب والمقاومة منذ الرصاصة الأولى حتى الطلقة الأخيرة، ستبقى لتُروى وتُلهم أجيالاً ستعمل لتحرير ما تبقى من الأراضي اللبنانية جنوباً حتى جنوب الجنوب، واستعادة فلسطين.
لقد كان تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي “همزة الوصل” لمقاومة الاحتلال في فلسطين والجولان المحتل، تغيّرت قواعد اللعبة ولم يعد الصراع بين جيش لا يُقهر ومقاومة بدائية. ما فعلته المقاومة حينها، صار نموذجًا عسكريًا يُدرّس. ومن هذا النموذج تستمد حركات المقاومة الأساليب “المناسبة” لدحر العدو. وبعد مرور 21 عاماً على التحرير، باتت المقاومة، التي قرّعت العدو في حرب تموز 2006، تمتلك قدرات عسكرية وتكتيكية ضخمة يهابها العدو، الذي لا يجرؤ على ارتكاب حماقات.
الاستخبارات الأميركية نصحت بل وضغطت على رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو بضرورة أن تعلن إسرائيل وقف إطلاق النار من طرفها هي وأن تنهي الحرب قبل عيد التحرير اللبناني، بل وحذّرت الاستخبارات الأميركية، وفق الإعلام الأميركي، من خطر حرب شاملة إذا بقيت الحرب حتى حزيران لإدراكهم أن وقوعها يعني نهاية الدولة المغتصبة.
هكذا باتت فكرة المقاومة أكبر وأوسع تردع المتربصين والغزاة. في كلمة ألقاها الشاعر الكبير الراحل محمود درويش، في احتفال بجامعة بيرزيت في 29 أيار 2000 احتفاءً بتحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، قال درويش “لن يتوقف عدوى الامل الكبير الذي أيقظه لبنان الصغير في قارة عطشى الى الحرية والديموقراطية. لقد استعادت ثقافة المقاومة، بمعناها الواسع، بعض أسلحتها الفكرية التي صادرتها برغماتية مبتذلة لا تمّيز بين التسوية والسلام، ولا توازن بين الدفاع عن الحقوق وبين إدراك الممكن”.
بهذا المعنى فإن تحرير عام 2000 رغم الدماء التي أُزهقت والبيوت التي هُدمت والأثمان التي دُفعت، لكنه كان مُزهراً وشكّل مرحلة مفصلية في التاريخ العسكري على صعيد العالم وفي تعزيز ثقافة القتال لاسترداد الحقوق. فلأوّل مرة يتم تحرير أرض عربية بواسطة المقاومة ويتم إخراج العدو “الإسرائيلي” بهذه الطريقة “المذلة”. وأرست قواعد ردع مهمة، الأمر الذي ساهم في فشل العدوان عام 2006 من تحقيق أهدافه المتمثّلة بكسر المقاومة.
الآلة العسكرية التي تملكها “إسرائيل” أثبتت فشلها أمام تكتيك المقاومة بمجموعات صغيرة قادرة، كفوءة، مؤمنة، ولديها عقيدة قتالية تعرف الأرض جيداً. وهي اليوم باتت باعتراف العدو والصديق تملك من التقنيات والأدوات الحربية والقدرات القتالية ما جعلها هدفاً لحروب متوارية من التشويه والتضليل والدسائس والابتزاز والحصار والعقوبات وإنفاق مليارات الدولارات، دون أن تنجح بزعزعتها.
المقاومة تبقى البوصلة الموجهة نحو العدو الإسرائيلي ومخططاته الدموية التوسعية والأحداث في فلسطين المحتلة يؤكد عدوانية هذا الكيان وعنصريته. ورغم الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان، وجائحة كورونا التي غيّرت وجه العالم ورتابة حياة المواطنين يبقى عيد المقاومة والتحرير عيداً لولادة الاستقلال اللبناني الحقيقي ومناسبة للفخر والاعتزاز.
وتزيد بهجة العيد تزامن الذكرى مع احتفال غزة وباقي الأراضي الفلسطينية بالنصر الذي حققته المقاومة في فلسطين بعد عدوان وحشي استهدف البشر والحجر في غزة ومشاريع توسعيّة في القدس وباقي الأراضي الفلسطينية. ومع التبريك بالذكرى لسان حال الناس “الجنوب تحرّر.. وسيُستكمل حتى آخر شبر في لبنان.. وغداً سيُزهر في فلسطين”..
رانيا برو